فصل: تفسير الآيات رقم (116- 120)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 95‏]‏

‏{‏وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏90‏)‏ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ‏(‏91‏)‏ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ‏(‏92‏)‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ‏(‏93‏)‏ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ‏(‏94‏)‏ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

الظاهر أن الواو في قوله‏:‏ ‏{‏وأزلفت الجنة للمتقين‏}‏ واوُ الحال، والعامل فيها ‏{‏لا ينفع مال‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 88‏]‏، أي يوم عدم نفع من عدا من أتى الله بقلب سليم وقد أزلفت الجنة للمتقين‏.‏ والخروج إلى تصوير هذه الأحوال شيء اقتضاه مقام الدعوة إلى الإيمان بالرغبة والرهبة لأنه ابتدأ الدعوة بإلقاء السؤال على قومه فيما يعبدون إيقاظاً لبصائرهم، ثم أعقب ذلك بإبطال إلهية أصنامهم‏.‏ والاستدلال على عدم استئهالها الإلهية بدليل التأمل، وهو أنها فاقدة السمع والبصر وعاجزة عن النفع والضر، ثم طال دليل التقليد الذي نحا إليه قومه لما عجزوا عن تأييد دينهم بالنظر‏.‏

فلما نهضت الحجة على بطلان إلهية أصنامهم انتصب لبيان الإله الحق رب العالمين، الذي له صفات التصرف في الأجسام والأرواح، تصرف المنعم المتوحّد بشتّى التصرف إلى أن يأتي تصرفه بالإحياء المؤبد وأنه الذي نطمع في تجاوزه عنه يوم البعث فليعلموا أنهم إن استغفروا الله عما سلف منهم مِن كُفْر فإن الله يغفر لهم، وأنهم إن لم يقلعوا عن الشرك لا ينفعهم شيء يوم البعث، ثم صور لهم عاقبة حَالَي التقوى والغواية بذكر دار إجزاء الخير ودار إجزاء الشر‏.‏

ولما كان قومه مستمرين على الشرك ولم يكن يومئذ أحد مؤمناً غيره وغير زوجه وغير لوط ابن أخيه كان المقام بذكر الترهيب أجدر، فلذلك أطنب في وصف حال الضالّين يوم البعث وسوءِ مصيرهم حيث يندمون على ما فرطوا في الدنيا من الإيمان والطاعة ويتمنون أن يعودوا إلى الدنيا ليتداركوا الإيمان ولات ساعة مَندم‏.‏

والإزلاف‏:‏ التقريب‏.‏ وقد تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وأزلفنا ثَمّ الآخرين‏}‏ في هذه السورة ‏(‏64‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أن المتقين يجدون الجنة حاضرة فلا يتجشمون مشقة السوْق إليها‏.‏

واللام في ‏{‏للمتقين‏}‏ لام التعدية‏.‏

و ‏{‏برزت‏}‏ مبالغة في أُبرزت لأن التضعيف فيه مبالغة ليست في التعدية بالهمزة، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبُرّزت الجحيم لمن يرى‏}‏ في سورة النازعات ‏(‏36‏)‏‏.‏ والمراد ب ‏{‏الغاوين‏}‏ الموصوفون بالغواية، أي ضلال الرأي‏.‏

وذكْر ما يقال للغاوين للإنحاء عليهم وإظهار حقارة أصنامهم، فقيل لهم ‏{‏أين ما كنتم تعبدون‏}‏ وفي الاقتصار على ذكر هذا دون غيره مما يخاطبون به يومئذ مناسبة لمقام طلب الإقلاع عن عبادة تلك الأصنام‏.‏

وأسند فعل القول إلى غير معلوم لأن الغرض تعلق بمعرفة القول لا بمعرفة القائل، فالقائل الملائكة بإذن من الله تعالى لأن المشركين أحقر من أن يوجه الله إليهم خطابه مباشرة‏.‏

والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏أين ما كنتم تعبدون‏}‏ استفهام عن تعيين مكان الأصنام إن لم تكن حاضرة، أو عن عملها إن كانت حاضرة في ذلك الموقف، تنزيلاً لعدم جدواها فيما كانوا يأملونه منها منزلةَ العدم تهكّماً وتوبيخاً وتوقيفاً على الخطأ‏.‏

والاستفهام في ‏{‏هل ينصرونكم‏}‏ كذلك مع الإنكار أن تكون الأصنام نصراء‏.‏

والانتصار طلب النصير‏.‏

وكتب ‏{‏أينما‏}‏ في المصاحف موصولة نون ‏(‏أين‏)‏ بميم ‏(‏ما‏)‏ والمتعارف في الرسم القياسي أن مثله يكتب مفصولاً لأن ‏(‏ما‏)‏ هنا اسم موصول وليست المزيدة بعد ‏(‏أين‏)‏ التي تصير ‏(‏أين‏)‏ بزيادتها اسم شرط لعموم الأمكنة، ورسم المصحف سنة متبعة‏.‏

و ‏{‏أو‏}‏ للتخيير في التوبيخ والتخطئة، أي هل أخطأتم في رجاء نصرها إياكم، أو في الأقل هل تستطيع نَصر أنفسها وذلك حين يلقى بالأصنام في النار بمرأى من عبدتها ولذلك قال‏:‏ ‏{‏فكبكبوا فيها‏}‏، أي كبكبت الأصنام في جهنم‏.‏

ومعنى ‏{‏كُبكِبوا‏}‏ كُبُّوا فيها كَباً بعد كَبَ فإنَّ ‏{‏كبكبوا‏}‏ مضاعف كُبُّوا بالتكرير وتكرير اللفظ مفيد تكرير المعنى مثل‏:‏ كفكَف الدمعَ، ونظيره في الأسماء‏:‏ جيش لَمْلَم، أي كثير، مبالغة في اللَّم، وذلك لأن له فعلاً مرادفاً له مشتملاً على حروفه ولا تضعيف فيه فكان التضعيف في مرادفه لأجل الدلالة على الزيادة في معنى الفعل‏.‏

وضمائر ‏{‏ينصرونكم وينتصرون وكُبكبوا‏}‏ عائدة إلى ‏{‏ما كنتم تعبدون‏}‏ بتنزيلها منزلة العقلاء‏.‏ وجنود إبليس‏:‏ هم أولياؤه وأصناف أهل الضلالات التي هي من وسوسة إبليس‏.‏ وتقدم الكلام على إبليس في سورة البقرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 102‏]‏

‏{‏قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ‏(‏96‏)‏ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏97‏)‏ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏98‏)‏ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ‏(‏99‏)‏ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ‏(‏100‏)‏ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ‏(‏101‏)‏ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

يجوز أن يكون هذا من حكاية كلام إبراهيم عليه السلام أطنب به الموعظة لتصوير هول ذلك اليوم فتكون الجملة حالاً، أو تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً كما سيأتي‏.‏

ويجوز أن يكون حكاية كلام إبراهيم انتهت عند قوله‏:‏ ‏{‏وجنود إبليس أجمعون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 95‏]‏ أو عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يبعثون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 87‏]‏ على ما استظهر ابن عطية‏.‏ ويكون هذا الكلام موعظة من الله للسامعين من المشركين وتعليماً منه للمؤمنين فتكون الجملة استئنافاً معترضاً بين ذكر القصة والتي بعدها وهو استئناف بياني ناشئ عن قوله‏:‏ ‏{‏فكبكبوا فيها‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 94‏]‏ لأن السامع بحيث يسأل عن فائدة إيقاع الأصنام في النار مع أنها لا تفقه ولا تُحِسّ فبيّن له ذلك، فحكاية مخاصمة عبدتها بينهم لأن رؤيتهم أصنامهم هو مثار الخصومة بينهم إذ رأى الأتباعُ كذب مضلّليهم معاينة ولا يجد المضلّلون تنصّلاً ولا تفصّياً، فإن مذلة الأصنام وحضورها معهم وهم في ذلك العذاب أقوى شاهد على أنها لا تملك شيئاً لهم ولا لأنفسها‏.‏ 4

وأما جملة‏:‏ ‏{‏وهم فيها يختصمون‏}‏ فهي في موضع الحال، وجملة ‏{‏تالله‏}‏ مقول القول، وجملة‏:‏ ‏{‏إن كنا لفي ضلال مبين‏}‏ جواب القسم‏.‏ و‏{‏إنْ‏}‏ مخففة من ‏(‏إنَّ‏)‏ الثقيلة وقد أهملت عن العمل بسبب التخفيف فإنه مُجوز للإهمال‏.‏ والجملة بعدها سادّة مسد اسمها وخبرها‏.‏ واقتران خبر ‏(‏كان‏)‏ باللام في الجملة التي بعدها للفرق بين ‏{‏إنْ‏}‏ المخففة المؤكدة وبين ‏(‏إنْ‏)‏ النافية، والغالب أن لا تخلو الجملة التي بعد ‏{‏إنْ‏}‏ المخففة عن فعل من باب ‏(‏كان‏)‏‏.‏

وجيء في القسم بالتاء دون الواو والباء لأن التاء تختص بالقسم في شيء متعجب منه كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا تالله لقد علمتم ما جئنَا لنُفسد في الأرض‏}‏ في سورة يوسف ‏(‏73‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وتالله لأكيدَنّ أصنامكم‏}‏ في سورة الأنبياء ‏(‏57‏)‏، فهم يعجبون من ضلالهم إذ ناطوا آمالهم المعونة والنصر بحجارة لا تغني عنهم شيئاً‏.‏ ولذلك أفادوا تمكن الضلال منهم باجتلاب حرف الظرفية المستعار لمعنى الملابسة لأن المظروف شديد الملابسة لظرفه، وأكدوا ذلك بوصفهم الضلالَ بالمبين، أي الواضح البيّن‏.‏ وفي هذا تسفيه منهم لأنفسهم إذ تمشّى عليها هذا الضلال الذي ما كان له أن يروج على ذي مُسكة من عقل‏.‏

و ‏{‏إذ نسويكم‏}‏ ظرف متعلق ب ‏{‏كنّا‏}‏ أي كنا في ضلال في وقت إنا نسوّيكم برب العالمين‏.‏ وليست ‏{‏إذ‏}‏ بموضوعة للتعليل كما توهمه الشيخ أحمد بن عَلوان التونسي الشهير بالمِصري فيما حكاه عنه المقري في «نفح الطيب» في ترجمة أبي جعفر اللَّبْلي في الباب الخامس من القسم الأول، وإنما غشي عليه حاصل المعنى المجازي فتوهمه معنى من معاني ‏{‏إذ‏}‏ ومنه قول النابغة‏:‏

فعدِّ عما ترى إذْ *** لا ارتجاع له

أي حين لا ارتجاع له‏.‏

والتسوية‏:‏ المعادَلة والمماثلة، أي إذ نجعلكم مثل ربّ العالمين، فالظاهر أنهم جعلوهم مثله مع الاعتراف بالإلهية وهو ظاهر حال إشراكهم كما تقدم في قوله‏:‏

‏{‏فإنهم عدوٌّ لي إلا ربَّ العالمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 77‏]‏، ويحتمل أنهم جعلوه مثله فيما تبين لهم من إلهيته يومئذ إذ كانوا لا يؤمنون بالله أصلاً في الدنيا فهي تسوية بالمآل وقد آبوا إلى الاعتراف بما تضمنته كلمة إبراهيم لهم في الدنيا إذ قال لهم ‏{‏فإنهم عدوٌّ لي إلا رب العالمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 77‏]‏‏.‏

وضمير الخطاب في ‏{‏نسويكم‏}‏ موجه إلى الأصنام، وهو من توجيه المتندم الخطابَ إلى الشيء الذي لا يعقل وكان سبباً في الأمر الذي جرّ إليه الندامة بتنزيله منزلة من يعقل ويسمع‏.‏ والمقصود من ذلك المبالغة في توبيخ نفسه‏.‏ ومنه ما روى الغزالي في «الإحياء»‏:‏ أن عمر بن الخطاب دخل على أبي بكر الصديق فوجده ممسكاً بلسانه بأصبعيه وهو يقول‏:‏ أنتَ أوردتَني الموارد‏.‏ وعن ابن مسعود أنه وقف على الصفا يلبّي ويقول‏:‏ يا لسانُ قل خيراً تغْنَم واسكت عن شر تسلمَ‏.‏ وهذا أسلوب متّبع في الكلام نثراً ونظماً قال أبو تمام‏:‏

فيا دمعُ أنجدْني على سَاكني نجد *** وصيغ ‏{‏نسويكم‏}‏ في صيغة المضارع لاستحضار الصورة العجيبة حين يتوجهون إلى الأصنام بالدعاء والنعوت الإلهية‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏وما أضلنا إلا المجرمون‏}‏ خطاب بعض العامة لبعض‏.‏ وعنَوا بالمجرمين أيمة الكفر الذين ابتدعوا لهم الشرك واختلقوا لهم ديناً‏.‏

والمناسب أن يكون التعريف في ‏{‏المجرمون‏}‏ مستعملاً في كَمال الإجرام فإن من معاني اللام أن تدل على معنى الكمال‏.‏

ورتبوا بالفاء انتفاء الشافعين على جملة‏:‏ ‏{‏وما أضلنا إلا المجرمون‏}‏ حيث أطمعوهم بشفاعة الأصنام لهم عند الله مثل المشركين من العرب ‏{‏ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏ فتبيّن لهم أن لا شفاعة لها، وهذا الخبر مستعمل في التحسر والتوجع‏.‏

والشافع‏:‏ الذي يكون واسطةَ جلب نفع لغيره أو دفع ضر عنه‏.‏ وتقدم ذكر الشفاعة في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تنفعها شفاعة‏}‏ في البقرة ‏(‏123‏)‏، والشفيع في أول سورة يونس‏.‏

وأما قولهم‏:‏ ‏{‏ولا صديق حميم‏}‏ فهو تتميم أثارهُ ما يلقونه من سوء المعاملة من كل من يمرون به أو يتصلون، ومن الحرمان الذي يعاملهم كل من يسألونه الرفق بهم حتى علموا أن جميع الخلق تتبرأ منهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ورأوا العذاب وتقطّعت بهم الأسباب‏}‏ فإن الصديق هو الذي يواسيك أو يسليك أو يتوجع ويومئذ حقّت كلمة الله ‏{‏الأخِلاّء يومئذ بعضهُم لبعض عدوّ إلا المتقين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 67‏]‏ وتقدم الكلام على الصديق في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو صديقكم‏}‏ في سورة النور ‏(‏61‏)‏‏.‏

والحميم‏:‏ القريب، فعيل من حَمَّ ‏(‏بفتح الحاء‏)‏ إذا دنا وقرُب فهو أخص من الصديق‏.‏

والمراد نفي جنس الشفيع وجنس الصديق لوقوع الاسمين في سياق النفي المؤكَّد ب ‏{‏من‏}‏ الزائدة، وفي ذلك السياق يستوي المفرد والجمع في الدلالة على الجنس‏.‏ وإنما خولف بين اسمي هذين الجنسين في حكاية كلامهم إذ جيء ب ‏{‏شافعين‏}‏ جمعاً، وب ‏{‏صديق‏}‏ مفرداً، لأنهم أرادوا بالشافعين الآلهة الباطلة وكانوا يعهدونهم عديدين فجرى على كلامهم ما هو مرتسم في تصورهم‏.‏

وأما الصديق فإنه مفروض جنسُه دون عدد أفراده إذ لم يَعنُوا عدداً معيّناً فبقي على أصل نفي الجنس، وعلى الأصل في الألفاظ إذْ لم يكن داع لغير الإفراد‏.‏ والذي يبدو لي أنه أوثر جمع ‏{‏شافعين‏}‏ لأنه أنسب بصورة ما في أذهانهم كما تقدم‏.‏ وأما إفراد ‏{‏صديق‏}‏ فلأنه أريد أن يُجرى عليه وصف ‏{‏حميم‏}‏ فلو جيء بالموصوف جمعاً لاقتضى جمع وصفه، وجمعُ ‏{‏حميم‏}‏ فيه ثقل لا يناسب منتهى الفصاحة ولا يليق بصورة الفاصلة مع ما حصل في ذلك من التفنن الذي هو من مقاصد البلغاء‏.‏

ثم فرعوا على هذا التحسر والندامة تمنِّي أن يعادوا إلى الدنيا ليتداركوا أمرهم في الإيمان بالله وحده‏.‏

و ‏(‏لو‏)‏ هذه للتمنّي، وأصلها ‏(‏لو‏)‏ الشرطية لكنها تُنُوسي منها معنى الشرط‏.‏ وأصلها‏:‏ لو أرجعنا إلى الدنيا لآمنّا، لكنه إذا لم يقصد تعليق الامتناع على امتناع تمحّضت ‏(‏لو‏)‏ للتمنّي لما بين الشيء الممتنع وبين كونه متمنّى من المناسبة‏.‏ والكرة‏:‏ مرة من الكرّ وهو الرجوع‏.‏

وانتصب ‏{‏فنكون‏}‏ في جواب التمنّي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 104‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏104‏)‏‏}‏

تكرير ثالث لهاته الجملة تعداداً على المشركين وتسجيلاً لتصميمهم‏.‏ واسم الإشارة إشارة إلى كلام إبراهيم عليه السلام فإن فيه دليلاً بيّناً على الوحدانية لله تعالى وبطلان إلهية الأصنام، فكما لم يهتد بها قوم إبراهيم فما كان أكثر المشركين بمكة بمؤمنين بها بعد سماعها، ولكن التبليغ حق على الرسول صلى الله عليه وسلم وقد تقدم الكلام على نظير هذه الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 110‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏105‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏106‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏107‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏108‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏109‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏110‏)‏‏}‏

استئناف لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ناشئ عن قوله‏:‏ ‏{‏وما كان أكثرهم مؤمنين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 103‏]‏ أي لا تأسَ عليهم ولا يعظُمْ عليك أنهم كذّبوك فقد كذبت قوم نوح المرسلين؛ وقد علم العرب رسالةَ نوح، وكذلك شأن أهل العقول الضالّة أنهم يعرفون الأحوال وينسون أسبابها‏.‏

وأنث الفعل المسند إلى قوم نوح لتأويل ‏{‏قوم‏}‏ بمعنى الأمة أو الجماعة كما يقال‏:‏ قالت قريش، وقالت بنو عامر، وذلك قياس في كل اسم جَمع لا واحد له من لفظه إذا كان للآدمي مثل نَفَر ورهْط، فأما إذا كان لغير الآدميين نحو إبل فمؤنث لا غير‏.‏ قاله الجوهري وتبعه صاحب «اللسان» و«المصباح»‏.‏

ووقع في «الكشاف» هذه العبارة «القومُ مؤنثة وتصغيرُها قُويمة» فظاهر عبارته أن هذا اللفظ مؤنث المعنى في الاستعمال لا غير، وهذَا لم يقله غيره وسكت شراحه عليه ولم يعرج الزمخشري عليه في «الأساس» فإن حمل على ظاهر العبارة فهو مخالف لكلام الجوهري وابن سيده‏.‏ ويحتمل أنه أراد جواز تأنيث ‏(‏قوم‏)‏ وأنه يجوز أن يصغر على قويمة فيُجمع بين كلامه وكلام الجوهري وابن سيده، وهو احتمال بعيد من ظاهر كلامه الموكَّد بقوله‏:‏ وتصغيره قُويمة، لما هو مقرر من أن التصغير يرد الأسماء إلى أصولها‏.‏ وأيّاً مّا كان فهو صريح في أن تأنيثه ليس بتأويله بمعنى الأمة لأن التأويل اعتبار للمتكلم فلا يكون له أثر في إجراء الصيغ مثل التصغير، فإن الصيغ من آثار الوضع دون الاستعمال، ألا ترى أنه لا تجعل للمعاني المجازية صيغ خاصة بالمجاز‏.‏

وجُمع ‏{‏المرسلين‏}‏ وإنما كذَّبوا رسولاً واحداً أولَ الرسل ولم يكن قبله رسول وهم أول المكذّبين، فإنما جُمع لأن تكذيبهم لم يكن لأجل ذاته ولكنه كان لإحالتهم أن يرسل الله بشراً، وأن تكون عبادة أصنامهم ضلالاً فكان تكذيبهم إياه مقتضياً تكذيب كل رسول لأن كل رسول يقول مثل ما قاله نوح عليه السلام، ولذلك تكرر في قوله‏:‏ ‏{‏كذبت عاد المرسلين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 123‏]‏ وما بعده‏.‏ وقد حكي تكذيبهم أن يكون الرسول بشراً في قوله‏:‏ ‏{‏أَوَعَجِبْتم أن جاءكم ذِكْر من ربكم على رجل منكم لينذركم‏}‏ في ‏[‏الأعراف‏:‏ 63‏]‏‏.‏

وسيأتي حكاية تكذيب عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب لَيْكة على هذا النمط فيما تكرر من قوله‏:‏ كذبت‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏المرسلين‏}‏‏.‏

و ‏{‏إذ قال‏}‏ ظرف، أي كذبوه حين قال لهم ‏{‏ألا تتقون‏}‏ فقالوا‏:‏ ‏{‏أنؤمن لك‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 111‏]‏‏.‏ ويظهر أن قوله‏:‏ ‏{‏ألا تتقون‏}‏ صدر بعد أن دعاهم من قبل وكرّر دعوتهم إذ رآهم مُصرِّين على الكفر ويدل لذلك قولهم في مجاوبته ‏{‏واتَّبَعَك الأرذلون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 111‏]‏‏.‏

وخص بالذكر في هذه السورة هذا الموقف من مواقفه لأنه أنسب بغرض السورة في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بذكر مماثل حاله مع قومه‏.‏

والأخ مستعمل في معنى القريب من القبيلة‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإلى عاد أخاهم هوداً‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 65‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ألا تتقون‏}‏ يجوز أن يكون لفظ ‏{‏أَلاَ‏}‏ مركباً من حرفين همزة استفهام دخلت على ‏(‏لاَ‏)‏ النافية، فهو استفهام عن انتفاء تقواهم مستعمل في الإنكار وهو يقتضي امتناعهم من الامتثال لدعوته‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏أَلاَ‏}‏ حرفاً واحداً هو حرف التحْضيض مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 13‏]‏ وهو يقتضي تباطؤهم عن تصديقه‏.‏

والمراد بالتقوى‏:‏ خشية الله من عقابه إياهم على أن جعلوا معه شركاء‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إني لكم رسول أمين‏}‏ تعليل للإنكار أو للتحضيض، أي كيف تستمرون على الشرك وقد نهيتكم عنه وأنا رسول لكم أمينٌ عندكم‏.‏

وكان نوح موسوماً بالأمانة لا يتهم في قومه كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يلقب الأمين في قريش‏.‏ قال النابغة‏:‏

كذلك كانَ نوحٌ لا يخون *** وتأكيده بحرف التأكيد مع عدم سبق إنكارهم أمانته لأنه توقَّع حدوث الإنكار فاستدل عليهم بتجربة أمانته قبل تبليغ الرسالة، فإن الأمانة دليل على صدقه فيما بلَّغهم من رسالة الله، كما قال هرقل لأبي سفيان وقد سأله‏:‏ هل جربتم عليه ‏(‏يعني النبي صلى الله عليه وسلم كَذِباً، فقال أبو سفيان‏:‏ لاَ ونَحْن منه في مدة لا ندري ما فعل فيها‏.‏ فقال له هرقل بعد ذلك‏:‏ فقد عَلِمتُ أنه ما كان ليترك الكذب على الناس ويكذب على الله‏.‏ ففي حكاية استدلال نوح بأمانته بين قومه في هذه القصة المسوقة مثلاً للمشركين في تكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم تعريض بهم إذ كذبوه بعد أن كانوا يدْعونه الأمين، ويحتمل أن يراد به أمين من جانب الله على الأمة التي أرسل إليها‏.‏ والتأكيد أيضاً لتوقع الإنكار منهم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وما أسئلكم عليه من أجر‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏إني لكم رسول أمين‏}‏ أي علمتم أني أمين لكم وتعلمون أني لا أطلب من دعوتكم إلى الإيمان نفعاً لنفسي‏.‏ وضمير ‏{‏عليه‏}‏ عائد إلى معلوم من مقام الدعوة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله وأطيعون‏}‏ تأكيد لقوله‏:‏ ‏{‏ألا تتقون‏}‏ وهو اعتراض بين الجملتين المتعاطفتين‏.‏ وكرر جملة‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله وأطيعون‏}‏ لزيادة التأكيد فيكون قد افتتح دعوته بالنهي عن ترك التقوى ثم علل ذلك ثم أعاد ما تقتضيه جملة الاستفتاح، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وما أسئلكم عليه من أجر‏}‏، ثم أعاد جملة الدعوة في آخر كلامه إذ قال‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله وأطيعون‏}‏ مرة ثانية بمنزلة النتيجة للدعوة ولتعليلها‏.‏

وحذفت الياء من ‏{‏أطيعون‏}‏ في الموضعين كما حذفت في قوله‏:‏ ‏{‏فأخاف أن يَقتلونِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 14‏]‏ في أوائل السورة‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏إنْ أجري إلاّ على رب العالمين‏}‏ إشارة إلى يوم الجزاء وكانوا ينكرون البعث كما دل عليه قوله في سورة ‏[‏نوح‏:‏ 17- 18‏]‏ ‏{‏والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويُخرجكم إخراجاً‏}‏ وتقدم ذكر نوح عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله اصطفى آدم ونوحاً‏}‏ في ‏[‏آل عمران‏:‏ 33‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏111- 115‏]‏

‏{‏قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ‏(‏111‏)‏ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏112‏)‏ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ‏(‏113‏)‏ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏114‏)‏ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏115‏)‏‏}‏

جملة‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ استئناف بياني لما يثيره قوله‏:‏ ‏{‏كذبت قوم نوح‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 105‏]‏ من استشراف السامع لمعرفة ما دار بينهم وبين نوح من حوار، ولذلك حكيت مجادلتهم بطريقة‏:‏ قالوا، وقال‏.‏ والقائلون‏:‏ هم كبراء القوم الذين تصدّوا لمحاورة نوح‏.‏

والاستفهام في ‏{‏أنؤمن‏}‏ استفهام إنكاري، أي لا نؤمن لك وقد اتّبعك الأرذلون فجملة‏:‏ ‏{‏واتبعك‏}‏ حالية‏.‏

و ‏{‏الأرذلون‏}‏‏:‏ سَقَط القوم موصوفون بالرذالة وهي الخِسّة والحقارة، أرادوا بهم ضعفاء القوم وفقراءهم فتكبروا وتعاظموا أن يكونوا والضعفاءَ سواء في اتّباع نوح‏.‏ وهذا كما قال عظماء المشركين للنبيء صلى الله عليه وسلم لما كان من المؤمنين عمَّار وبلال وزيدُ بن حارثة‏:‏ أنحن نكون تبعاً لهؤلاء أطرِدْهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك‏.‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَطْرُد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه‏}‏ الآيات من سورة الأنعام ‏(‏52‏)‏‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏واتَّبعَك‏}‏ بهمزة وصل وتشديد التاء الفوقية على أنه فعل مضي من صيغة الافتعال‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم كانوا من أتباعه أو كانوا أكثر أتباعه‏.‏ وقرأ يعقوب ‏{‏وأتْبَاعُك‏}‏ بهمزة قطع وسكون الفوقية وألف بعد الموحدة على أنه جمع تابع‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم أتباعه لا غيرهم فالصيغة صيغةُ قصر‏.‏

وجواب نوح عن كلام قومه يحتاج إلى تدقيق في لفظه ومعناه‏.‏ فأما لفظه فاقتران أوله بالواو يجعله في حكم المعطوف على كلام قومه تنبيهاً على اتصاله بكلامهم‏.‏ وذلك كناية عن مبادرته بالجواب كما في قوله تعالى حكايةً عن إبراهيم عليه السلام ‏{‏قال ومن ذريتي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏قال إني جاعلك للناس إماماً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏‏.‏ ويسمى عطفَ تلقين مراعاةً لوقوعه في تلك الآية والأوْلى أن يسمى عطف تكميل‏.‏

وأما معناه فهو استفهام مؤذن بأن قومه فصَّلوا إجمال وصفهم أتباعَه بالأرذلين بأن بينوا أوصافاً من أحوال أهل الحاجة الذين لا يعبأ الناس بهم فأتى بالاستفهام عن علمه استفهاماً مستعملاً في قلة الاعتناء بالمستفهَم عنه، وهو كناية عن قلة جدواه لأن الاستفهام عن الشيء يؤذن بالجهل به، والجهل تُلازمه قلة العناية بالمجهول وضعفُ شأنه، كما يقال لك‏:‏ يهدّدك فلان، فتقول‏:‏ وما فُلان، أي لا يُعبأ به‏.‏ وفي خبر وهب بن كيسان عن جابر ابن عبد الله أن أبا عبيدة كان يقُوتنا كلَّ يوم تمرةً فقال وهب‏:‏ قلتُ وما تغني عنكم تمرة‏.‏

والمعنى‏:‏ أي شيء علمي بما كانوا يعملون حتى اشتغلَ بتحصيل علم ما كانوا يعملون وأعمالهم بما يناسب مراتبهم فأنا لا أهتم بما قبلَ إيمانهم‏.‏

وضُمن ‏{‏علمي‏}‏ معنى اشتغالي واهتمامي فعُدّي بالباء‏.‏

و ‏{‏ما كانوا يعملون‏}‏ موصول مَا صدقه الحالة لأن الحالة لا تخلو من عمل‏.‏ فالمعنى‏:‏ وما علمي بأعمالهم‏.‏ وهذا كما يقال في السؤال عن أحد‏:‏ ماذا فعل فلان‏؟‏ أي ما خبره وما حاله‏؟‏ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم للصبي الأنصاري‏:‏ «يا أبا عمير ما فعل النغير» لطائر يسمى النُغَر ‏(‏بوزن صُرد‏)‏ وهو من نوع البلبل كان عند الصبي يلعب به، ومنه قوله لمن سأله عن الذين ماتوا من صبيان المشركين‏:‏ «الله أعلم بما كانوا عاملين» أي الله أعلم بحالهم، فهو إمساك عن الجواب‏.‏

وقريب منه قول العرب‏:‏ ما بَالُه، أي ما حاله‏؟‏‏.‏

وفعل ‏{‏كانوا‏}‏ مزيد بين ‏(‏مَا‏)‏ الموصولة وصلتِها لإفادة التأكيد، أي تأكيد مدلول «ما علمي بما يعملون»‏.‏ والمعنى‏:‏ أي شيء علمي بما يعملون‏.‏ وليس المراد بما كانُوا عملوه من قبل‏.‏ والواو في قوله‏:‏ ‏{‏بما كانوا‏}‏ فاعل وليست اسماً ل ‏(‏كان‏)‏ لأن ‏(‏كان‏)‏ الزائدة لا تنصب الخبر‏.‏

وشمل قوله‏:‏ ‏{‏بما كانوا يعملون‏}‏ جميع أحوالهم في دينهم ودنياهم في الماضي والحال والمستقبل والظاهر والباطن‏.‏

والحساب حقيقته‏:‏ العَدّ، واستعمل في معنى تمحيض الأعمال وتحقيق ظواهرها وبواطنها بحيث لا يفوت منها شيء أو يشتبه‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الله هو الذي يتولّى معاملتهم بما أسلفوا وما يعملون وبحقائق أعمالهم‏.‏ وهذا المقال اقتضاه قوله‏:‏ ‏{‏وما علمي بما كانوا يعملون‏}‏ من شموله جميع أعمالهم الظاهرة والباطنة التي منها ما يحاسبون عليه وهو الأهم عند الرسول المشرّع، فلذلك لما قال‏:‏ ‏{‏وما علمي بما كانوا يعملون‏}‏ أتبعه بقوله‏:‏ ‏{‏إن حسابهم إلا على ربي‏}‏ على عادة أهل الإرشاد في عدم إهمال فُرصته‏.‏ وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فإذا قالوها ‏(‏أي لا إله إلا الله‏)‏ عصموا منّي دماءَهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ‏"‏، أي تحقيق مطابقة باطنهم لظاهرهم على الله‏.‏

وزاد نوح قوله بياناً بقوله‏:‏ ‏{‏وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين‏}‏ وبيَّن هذا المعنى قوله في الآية الأخرى ‏{‏الله أعلم بما في أنفسهم‏}‏ في سورة هود ‏(‏31‏)‏‏.‏

والقصر في قوله‏:‏ ‏{‏إن حسابهم إلا على ربي‏}‏ قصر موصوف على الصفة، والموصوف هو ‏{‏حسابهم‏}‏ والصفة هي ‏{‏على ربّي‏}‏، لأن المجرور الخبرَ في قوة الوصف، فإن المجرورات والظروف الواقعة أخباراً تتضمن معنى يتصف به المبتدأ وهو الحصول والثبوت المقدر في الكلام بكائن أو مستقِر كما بيّنه علماء النحو‏.‏ والتقدير‏:‏ حسابهم مقصور على الاتصاف بمدلول ‏{‏على ربّي‏}‏‏.‏ وكذلك قدّره السكاكي في «المفتاح»، وهو قصر إفراد إضافي، أي لا يتجاوز الكون على ربي إلى الاتصاف بكونه عليَّ‏.‏ وهو رد لما تضمنه كلام قومه من مطالبته بإبعاد الذين آمنوا لأنهم لا يستحقون أن يكونوا مساوين لهم في الإيمان الذي طلبه نوح من قومه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لو تشعرون‏}‏ تجهيل لهم ورغمٌ لغرورهم وإعجابهم الباطل‏.‏ وجواب ‏{‏لو‏}‏ محذوف دل عليه ما قبلَه‏.‏ والتقدير‏:‏ لو تشعرون لشَعَرْتُم بأن حسابهم على الله لا عليَّ فَلَمَا سألتمونيه‏.‏ ودَل على أنه جهَّلَهم قولُه في سورة هود ‏(‏29‏)‏ ‏{‏ولكني أراكم قوماً تجهلون‏}‏

هذا هو التفسير الذي يطابق نظم الآية ومعناها من غير احتياج إلى زيادات وفروض‏.‏

والمفسرون نحَوْا منحى تأويل الأرذلون‏}‏ أنهم الموصوفون بالرذالة الدنية، أي الطعن في صدق إيمان من آمن به، وجعلوا قوله‏:‏ ‏{‏وما علمي بما كانوا يعملون‏}‏ تبرُّؤاً من الكشف على ضمائرهم وصحة إيمانهم‏.‏ ولعل الذي حملهم على ذلك هو لفظ الحساب في قوله‏:‏ ‏{‏إن حسابهم إلا على ربي‏}‏، فحملوه على الحساب الذي يقع يوم الجزاء وذلك لا يثلج له الصدر‏.‏

وعطف قوله‏:‏ ‏{‏وما أنا بطارد المؤمنين‏}‏ على قوله‏:‏ ‏{‏وما علمي بما كانوا يعملون‏}‏ فبعد أن أبطَل مقتضى طردِهم صرح بأنه لا يفعله‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن أنا إلا نذير مبين‏}‏ استئناف في معنى التعليل، أي لأن وصفي يصرفني عن موافقتكم‏.‏

والمُبِين‏:‏ من أبان المتعدي بمعنى بَيَّن ووضَّح‏.‏ والقصر إضافي وهو قصر موصوف على صفة‏.‏

وقد تقدم في سورة هود حكاية موقف لنوح عليه السلام مع قومه شبيه بما حكي هنا وبين الحكايتين اختلاف مَّا، فلعلهما موقفان أو هما كلامان في موقف واحد حكي أحدُهما هنالك والآخر هنا على عادة قصص القرآن، فما في إحدى الآيتين من زيادة يحمل على أنه مكمل لما في الأخرى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 120‏]‏

‏{‏قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ‏(‏116‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ‏(‏117‏)‏ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏118‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ‏(‏119‏)‏ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ ‏(‏120‏)‏‏}‏

لما أعياهم الاستدلال صاروا إلى سلاح المبطلين وهو المناضلة بالأذى‏.‏

والرجم‏:‏ الرمي بالحجارة، وقد غلب استعماله في القتل به، و‏{‏من المرجومين‏}‏ يفيد من بين الذين يعاقبون بالرجم، أي من فئة الدعّار الذين يستحقون الرجم، كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وما أنا من المهتدين‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏56‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن قومي كذبون‏}‏ تمهيد للدعاء عليهم وهو خبر مستعمل في إنشاء التحسر واليأس من إقلاعهم عن التكذيب‏.‏

والفَتح‏:‏ الحُكم، وتأكيده ب ‏{‏فَتْحاً‏}‏ لإرادة حكم شديد، وهو الاستئصال ولذلك أعقبه بالاحتراس بقوله‏:‏ ‏{‏ونجني ومن معي من المؤمنين‏}‏‏.‏

و ‏{‏المشحون‏}‏‏:‏ المملوء‏.‏

و ‏{‏ثُم‏}‏ للتراخي الرتبي في الإخبار لأن إغراق أمة كاملة أعظم دلالة على عظيم القدرة من إنجاء طائفة من الناس‏.‏

وحذف الياء من قوله‏:‏ ‏{‏كذبون‏}‏ للفاصلة كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏فأخاف أن يقتلون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 14‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121- 122‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏121‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏122‏)‏‏}‏

الآية في قصة نوح دلالتُها على أن الله لا يقرّ الذين يكذّبون رسله، ففي هذه القصة آية للمشركين من قريش وهم يعلمون قصة نوح والطوفان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 127‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏123‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏124‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏125‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏126‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏127‏)‏‏}‏

جملة مستأنفة استئناف تعداد لأخبار التسلية للرسول وتكرير الموعظة للمكذبين بعد جملة‏:‏ ‏{‏كذبت قوم نوح المرسلين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 105‏]‏‏.‏

والقول في هذه الآيات كالقول في نظيرتها في أول قصة نوح سواء، سِوى أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذبت عاد المرسلين‏}‏ يفيد أنهم كذبوا رسولهم هوداً وكذبوا رسالة نوح لأن هوداً وعظهم بمصير قوم نوح في آية‏:‏ ‏{‏واذكروا إذ جعَلَكم خلفاءَ من بعد قوم نوح‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏69‏)‏‏.‏

واقتران فعل ‏{‏كذبت‏}‏ بتاء التأنيث لان اسم عاد علَم على أمة فهو مُؤَوّل بمعنى الأمة‏.‏

والقول في ‏{‏ألاَ تتقون‏}‏ مثل القول في نظيره المتقدم في قصة قوم نوح‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إني لكم رسول أمين‏}‏ هو كقول نوح لقومه، فإن الرسول لا يبعث إلا وقد كان معروفاً بالأمانة وحسن الخلق قبل الرسالة‏.‏ ويدل لكون هود قد كان كذلك في قومه قولُ قومه له ‏{‏إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء‏}‏ في سورة هود ‏(‏54‏)‏ الدال على أنهم زعموا أن تغير حاله عما كان معروفاً به من قبل بسبب سوء اعتقاده في آلهتهم‏.‏

وتفريع فاتقوا الله وأطيعون‏}‏ عليه كما تقدم في قصة نوح‏.‏ وحذف ياء ‏{‏وأطيعون‏}‏ للفاصلة كحذفها في قصة نوح وإبراهيم آنفاً‏.‏

وتقدم ذكر عاد وهود عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإلى عاد أخاهم هوداً‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏65‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏128- 130‏]‏

‏{‏أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ ‏(‏128‏)‏ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ‏(‏129‏)‏ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ‏(‏130‏)‏‏}‏

رأى من قومه تمحّضاً للشغل بأمور دنياهم، وإعراضاً عن الفكر في الآخرة والعمل لها والنظرِ في العاقبة، وإشراكاً مع الله في إلهيته، وانصرافاً عن عبادة الله وحده الذي خلقهم وأَعْمَرهم في الأرض وزادهم قوة على الأمم، فانصرفت همّاتهم إلى التعاظم والتفاخر واللهو واللعب‏.‏

وكانت عاد قد بلغوا مبلغاً عظيماً من البَأس وعظم السلطان والتغلب على البلاد مما أثار قولهم‏:‏ ‏{‏مَن أشدُّ منَّا قوةً‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 15‏]‏ فقد كانت قبائل العرب تصِف الشيء العظيم في نوعه بأنه «عَادي» وكانوا أهل رأي سديد ورجاحة أحلام، قال ودَّاك بن ثُمَيْل المازني‏:‏

وأحلامُ عاد لا يخاف جلِيسهم *** ولو نطقَ العُوَّار غَرْبَ لِسان

وقال النابغة يمدح غسان‏:‏

أحلامُ عاد وأجساد مطهرة *** من المَعَقَّة والآفات والأثَم

فطال عليهم الأمد، وتفننوا في إرضاء الهوى، وأقبلوا على الملذّات واشتد الغرور بأنفسهم فأضاعوا الجانب الأهم للإنسان وهو جانب الدين وزكاء النفس، وأهملوا أن يقصدوا من أعمالهم المقاصد النافعة ونية إرضاء الله على أعمالهم لحب الرئاسة والسمعة، فعبدوا الأصنام، واستخفوا بجانب الله تعالى، واستحمقوا الناصحين، وأرسل الله إليهم هوداً ففاتحهم بالتوبيخ على ما فُتِنوا بالإعجاب به وبذمه إذ ألهاهم التنافس فيه عن معرفة الله فنبذُوا اتّباع الشرائع وكذَّبوا الرسول‏.‏ فمِن سابِق أعمال عاد أنهم كانوا بَنوا في طرق أسفارهم أعلاماً ومنارات تدل على الطريق كيلا يضِلّ السائرون في تلك الرمال المتنقلة التي لا تبقى فيها آثار السائرين واحتفروا وشيّدوا مصانع للمياه وهي الصهاريج تَجمع ماء المطر في الشتاء ليشرب منها المسافرون وينتفع بها الحاضرون في زمن قلة الأمطار، وبنوْا حصوناً وقصوراً على أشراف من الأرض، وهذا من الأعمال النافعة في ذاتها لأن فيها حفظ الناس من الهلاك في الفيافي بِضلال الطرق، ومن الهلكة عطشاً إذا فقدوا الماء وقت الحاجة إليه، فمتى أريد بها رضى الله تعالى بنفع عبيده كانت جديرةً بالثناء عاجلاً والثواب آجلاً‏.‏

فأما إذا أهمل إرضاء الله تعالى بها واتُّخِذت للرياء والغرور بالعظمة وكانوا مُعرضين عن التوحيد وعن عبادة الله انقلبت عظمة دنيويةً محْضة لا ينظر فيها إلى جانب النفع ولا تحث الناس على الاقتداء في تأسيس أمثالها وقصاراها التمدح بما وجدوه منها‏.‏ فصار وجودها شبيهاً بالعبث لأنها خلت عن روح المقاصد الحسنة فلا عبرة عند الله بها لأن الله خلق هذا العالم ليكون مظهر عبادته وطاعته‏.‏ وكانوا أيضاً في الإعراض عن الآخرة والاقتصار على التزود للحياة الدنيا بمنزلة من يحسبون أنفسهم خالدين في الدنيا‏.‏

والأعمال إذا خلت عن مراعاة المقاصد التي ترضي الله تعالى اختلفت مشارب عامليها طرائق قِدَداً على اختلاف الهمم واجتلاب المصالح الخاصة، فلذلك أنكرها عليهم رسولهم بالاستفهام الإنكاري على سنة المواعظ فإنها تُبنَى على مراعاة ما في الأعمال من الضر الراجح على النفع، فلا يلفت الواعظ إلى ما عسى أن يكون في الأعمال من مرجوح إذا كان ذلك النفع مرغوباً للناس، فإن باعث الرغبة المنْبَثَّ في الناس مغننٍ عن ترغيبهم فيه، وتصدي الواعظ لذلك فضول وخروج عن المقصد بتحذيرهم أو تحريضهم فيما عدا ذلك، إذا كان الباعث على الخير مفقوداً أو ضئيلاً‏.‏

وقد كان هذا المقام مقام موعظة كما دلّ عليه قوله تعالى عنهم ‏{‏قالوا سواءٌ علينا أوعَظت أم لم تكن من الواعظين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 136‏]‏‏.‏ ومقام الموعظة أوسع من مقام تغيير المنكر، فموعظة هود عليه السلام متوجهة إلى ما في نفوسهم من الأدواء الروحية، وليس في موعظته أمر بتغيير ما بنَوه من العلامات ولا ما اتخذوه من المصانع‏.‏

ولما صار أثر البناء شاغلاً عن المقصد النافع للحياة في الآخرة نُزّل فعلهم المفضي إلى العبث منزلة الفعل الذي أريد منه العبث عند الشروع فيه فأنكر عليهم البناءُ بإدخال همزة الإنكار على فعل ‏{‏تبنون‏}‏، وقُيّد بجملة‏:‏ ‏{‏تعبثون‏}‏ التي هي في موضع الحال من فاعل ‏{‏تبنون‏}‏، مع أنهم لما بنوا ذلك ما أرادوا بفعلهم عبثاً، فمناط الإنكار من الاستفهام الإنكاري هو البناء المقيّد بالعبث، لأن الحكم إذا دخل على مقيّد بقيْد انصرف إلى ذلك القيد‏.‏

وكذلك المعطوف على الفعل المستفهَم عنه وهو جملة‏:‏ ‏{‏وتتخذون مصانع‏}‏ هو داخل في حيّز الإنكار ومقيَّد بجملة الحال المقيَّد بها المعطوفُ عليه بناءً على أن الحال المتوسطة بين الجملتين ترجع إلى كلتيهما على رأي كثير من علماء أصول الفقه لا سيما إذا قامت القرينة على ذلك‏.‏

وقد اختلفت أقوال المفسّرين في تعيين البناء والآيات والمصانع كما سيأتي‏.‏ وفي بعض ما قالوه ما هو متمحّض للّهو والعبث والفساد، وفي بعضه ما الأصل فيه الإباحة، وفي بعضه ما هو صلاح ونفع كما سيأتي‏.‏

وموقع جملة‏:‏ ‏{‏أتبنون‏}‏ في موضع بدل الاشتمال لجملة‏:‏ ‏{‏ألا تتقون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 124‏]‏ فإن مضمونها مما يشتمل عليه عدم التقوى الذي تسلط عليه الإنكار وهو في معنى النفي‏.‏

والرِّيع بكسر الراء‏:‏ الشَّرف، أي المكان المرتفع، كذا عن ابن عباس، والطريقُ والفج بين الجبلين، كذا قال مجاهد وقتادة‏.‏

والآية‏:‏ العلامة الدالة على الطريق، وتطلق الآية على المصنوع المعجِب لأنه يكون علامة على إتقان صانعه أو عظمة صاحبه‏.‏

و ‏(‏كل‏)‏ مستعمل في الكثرة، أي في الأرياع المشرفة على الطرق المسلوكة، والعبث‏:‏ العمل الذي لا فائدة نفع فيه‏.‏

والمصانع‏:‏ جمع مَصنع وأصله مَفعَل مشتق من صَنَع فهو مصدر ميمي وُصف به للمبالغة، فقيل‏:‏ هو الجابية المحفورة في الأرض‏.‏ وروي عن قتادة‏:‏ مبنية بالجير يخزن بها الماء ويُسمّى صهريجاً وماجِلاً، وقيل‏:‏ قصور وهو عن مجاهد‏.‏

وكانت بلاد عاد ما بين عُمان وحضرموت شرقاً وغَرباً ومتغلغلة في الشمال إلى الرمال وهي الأحقاق‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لعلكم تخلدون‏}‏ مستأنفة‏.‏

و ‏(‏لعل‏)‏ للترجي، وهو طلب المتكلم شيئاً مستقْرب الحصول، والكلام تهكّم بهم، أي أرجو لكم الخلود بسبب تلك المصانع‏.‏ وقيل‏:‏ جعلت عاد بنايات على المرتفعات على الطرق يعبثون فيها ويسخرون بالمارة‏.‏ وقد يفسر هذا القول بأن الأمة في حال انحطاطها حولت ما كان موضوعاً للمصالح إلى مفاسد فعمدوا إلى ما كان مبنياً لقصد تيسير السير والأمن على السابلة من الضلال في الفيافي المهلكة فجعلوه مكامن لَهو وسخرية، كما اتخذت بعض أديرة النصارى في بلاد العرب مجالس خمر، وكما أدركنا الصهاريج التي في قرطاجنة كانت خَزَّاناً لمياه زغوان المنسابة إليها على الحنايا فرأيناها مكامِن للّصوص ومخازن للدواب إلى أول هذا القرن سنة 1303 ه‏.‏

وقيل‏:‏ إن المصانع قصور عظيمة اتّخذوها فيكون الإنكار عليهم متوجهاً إلى الإسراف في الإنفاق على أبنية راسخة مكينة كأنها تمنعهم من الموت، فيكون الكلام مسوقاً مساق الموعظة من التوغّل في الترف والتعاظم‏.‏ هذا ما استخلصناه من كلمات انتثرت في أقوال عن المفسرين وهي تدل على حيرة من خلال كلامهم في توجيه إنكار هود على قومه عملَيْن كانا معدودين في النافع من أعمال الأمم، وأحسب أن قد أزلنا تلك الحيرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا بطشتم بطشتم جبارين‏}‏ أعقب به موعظتهم على اللهو واللعب والحرص على الدنيا بأن وعظهم على الشدة على الخلق في العقوبة، وهذا من عدم التوازن في العقول فهم يبنون العلامات لإرشاد السابلة ويصطنعون المصانع لإغاثة العطاش فكيف يُلاقي هذا التفكير تفكيراً بالإفراط في الشدة على الناس في البطش بهم، أي عقوبتهم‏.‏

والبطش‏:‏ الضرب عند الغضب بسوط أو سيف، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏أم لهم أيدٍ يبطِشون بها‏}‏ في آخر الأعراف ‏(‏195‏)‏‏.‏

و ‏{‏جبارين‏}‏ حال من ضمير ‏{‏بطشتم‏}‏ وهو جمع جبّار، والجبار‏:‏ الشديد في غير الحق، فالمعنى‏:‏ إذا بطشتم كان بطشكم في حالة التجبر، أي الإفراط في الأذى وهو ظلم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن تريد إلاّ أن تكون جبّاراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وشأن العقاب أن يكون له حَد مناسب للذنب المعاقب عليه بلا إفراط ولا تفريط، فالإفراط في البطش استخفاف بحقوق الخلق‏.‏

وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ صنفان من أهل النار لم أرهما‏:‏ قومٌ معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏ الحديث‏.‏ ووقع فعل ‏{‏بطشتم‏}‏ الثاني جواباً ل ‏{‏إذا‏}‏ وهو مرادف لفعل شرطها، لحصول الاختلاف بين فعل الشرط وفعل الجواب بالعموم والخصوص كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا مرّوا باللّغو مرّوا كراماً‏}‏ في سورة الفرقان ‏(‏72‏)‏ وإنما يقصد مثل هذا النظم لإفادة الاهتمام بالفعل إذ يحصل من تكريره تأكيد مدلوله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏131- 135‏]‏

‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏131‏)‏ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ‏(‏132‏)‏ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ‏(‏133‏)‏ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏134‏)‏ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏135‏)‏‏}‏

لما أفاد الاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏أتبنون بكل رِيع آية‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 128‏]‏ معنى الإنكار على ما قارن بناءهم الآيات واتخاذهم المصانع وعلى شدتهم على الناس عند الغضب فرع عليه أمرُهم باتقاء الله، وحصل مع ذلك التفريع تكرير جملة الأمر بالتقوى والطاعة‏.‏

وحذفُ ياء المتكلم من ‏{‏أطيعون‏}‏ كحذفها في نظيرها المتقدم‏.‏ وأعيد فعل ‏{‏واتقوا‏}‏ وهو مستغنى عنه لو اقتصر على الموصول وصفاً لاسم الجلالة لأن ظاهر النظم أن يقال‏:‏ فاتقوا الله الذي أمّدكم بما تعلمون، فعُدل عن مقتضى الظاهر وبني الكلام على عطف الأمر بالتقوى على الأمر الذي قبله تأكيداً له واهتماماً بالأمر بالتقوى مع أن ما عرض من الفصل بين الصفة والموصوف بجملة ‏{‏وأطيعون‏}‏ قضى بأن يعاد اتصال النظم بإعادة فعل ‏{‏اتقوا‏}‏‏.‏

وإنما أتي بفعل ‏{‏اتقوا‏}‏ معطوفاً ولم يؤت به مفصولاً لما في الجملة الثانية من الزيادة على ما في الجملة الأولى من التذكير بإنعام الله عليهم، فعلق بفعل التقوى في الجملة الأولى اسمُ الذات المقدسة للإشارة إلى استحقاقه التقوى لذاته، ثم علق بفعل التقوى في الجملة الثانية اسمُ الموصول بصلته الدالة على إنعامه للإشارة إلى استحقاقه التقوى لاستحقاقه الشكر على ما أنعم به‏.‏

وقد جاء في ذكر النعمة بالإجمال الذي يُهَيِّئ السامعين لتلقّي ما يرد بعده فقال‏:‏ ‏{‏الذي أمدكم بما تعلمون‏}‏ ثم فُصِّل بقوله‏:‏ ‏{‏أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون‏}‏ وأعيد فعل ‏{‏أمدّكم‏}‏ في جملة التفصيل لزيادة الاهتمام بذلك الإمداد فهو للتوكيد اللفظي‏.‏ وهذه الجملة بمنزلة بدل البعض من جملة ‏{‏أمدكم بما تعلمون‏}‏ فإن فعل ‏{‏أمدّكم‏}‏ الثاني وإن كان مساوياً ل ‏{‏أمدكم‏}‏ الأول فإنما صار بدلاً منه باعتبار ما تعلق به من قوله‏:‏ ‏{‏بأنعام وبنين‏}‏ إلخ الذي هو بعض ممّا تعلمون‏.‏ وكلا الاعتبارين التوكيد والبدل يقتضي الفصل، فلأجله لم تعطف الجملة‏.‏

وابتدأ في تعداد النعم بذكر الأنعام لأنها أجلّ نعمة على أهل ذلك البلد، لأن منها أقواتَهم ولباسهم وعليها أسفارهم وكانوا أهلَ نُجعة فهي سبب بقائهم، وعطف عليها البنين لأنهم نعمة عظيمة بأنها أنسهم وعونهم على أسباب الحياة وبقاء ذكرهم بعدهم وكثرة أمتهم، وعطف الجنات والعيون لأنها بها رفاهية حالهم واتساع رزقهم وعيش أنعامهم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم‏}‏ تعليل لإنكار عدم تقواهم وللأمر بالتقوى، أي أخاف عليكم عذاباً إن لم تتقوا، فإن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده‏.‏

والعذاب يجوز أن يريد به عذاباً في الدنيا توعدهم الله به على لسانه، ويجوز أن يريد به عذاب يوم القيامة‏.‏

ووصف ‏{‏يوم‏}‏ ب ‏{‏عظيم‏}‏ على طريقة المجاز العقلي، أي عظيم ما يحصل فيه من الأهوال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏136- 140‏]‏

‏{‏قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ‏(‏136‏)‏ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏137‏)‏ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ‏(‏138‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏139‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏140‏)‏‏}‏

أجابوا بتأييسه من أن يقبلوا إرشادَه فجعلوا وعظهُ وعدمه سواء، أي هما سواء في انتفاء ما قصده من وعظه وهو امتثالهم‏.‏

والهمزة للتسوية‏.‏ وتقدم بيانها عند قوله‏:‏ ‏{‏سواءٌ عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏6‏)‏‏.‏

والوعظ‏:‏ التخويف والتحذير من شيء فيه ضر، والاسم الموعظة‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وهدى وموعظة للمتقين‏}‏ في سورة العقود ‏(‏46‏)‏‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏أم لم تكن من الواعظين‏}‏ أم لم تكن في عداد الموصوفين بالواعظين، أي لم تكن من أهل هذا الوصف في شيء، وهو أشدّ في نفي الصفة عنه من أن لو قيل‏:‏ أم لم تَعظ، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏67‏)‏، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أنا من المهتدين‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏56‏)‏، وتقدم آنفاً قوله في قصة نوح ‏{‏لتكونَنَّ من المرجومين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 116‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن هذا إلا خلق الأولين‏}‏ تعليل لمضمون جملة‏:‏ ‏{‏سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين‏}‏، أي كان سواءً علينا فلا نتَّبع وعظَك لأن هذا خلق الأولين‏.‏ والإشارة ب ‏{‏هذا‏}‏ إلى شيء معلوم للفريقين حاصل في مقام دعوة هود إياهم، وسيأتي بيانه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏خلق الأولين‏}‏ قرأه نافع وابن كثير وابن عامر وحمزة وعاصم وخلَف بضم الخاء وضم اللام‏.‏ وقرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وأبو جعفر ويعقوبُ بفتح الخاء وسكون اللام‏.‏

فعلى قراءة الفريق الأول ‏{‏خُلُقُ‏}‏ بضمتين، فهو السجية المتمكنة في النفس باعثة على عمل يناسبها من خير أو شر وقد فُسّر بالقوى النفسية، وهو تفسير قاصر فيشمل طبائع الخير وطبائع الشر، ولذلك لا يُعرَف أحدُ النوعين من اللفظ إلا بقيد يضم إليه فيقال‏:‏ خُلُق حسَن، ويقال في ضده‏:‏ سوء خُلُق، أو خُلُق ذميم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإنك لعلى خُلُق عظيم‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ وخَالِققِ الناسَ بخُلُق حسن ‏"‏

فإذا أطلق عن التقييد انصرف إلى الخُلُق الحسن، كما قال الحريري في «المقامة التاسعة» «وخُلُقي نعم العَون، وبيني وبينَ جاراتي بَوْن» أي في حسن الخلق‏.‏

والخلق في اصطلاح الحكماء‏:‏ ملكة ‏(‏أي كيفية راسخة في النفس أي متمكنة من الفكر‏)‏ تصدر بها عن النفس أفعال صاحبها بدون تأمل‏.‏

فخلق المرء مجموع غرائز ‏(‏أي طبائع نفسية‏)‏ مؤتلفة من انطباع فكري‏:‏ إما جبليّ في أصل خلقته، وإما كسبي ناشئ عن تمرّن الفكر عليه وتقلُّده إياه لاستحسانه إياه عن تجربة نفعه أو عن تقليد ما يشاهده من بواعث محبة ما شاهد‏.‏ وينبغي أن يسمى اختياراً من قول أو عمل لذاته، أو لكونه مِن سيرة من يُحبه ويقتدي به ويسمى تقليداً، ومحاولته تسمى تخلقاً‏.‏ قال سالم بن وابصة‏:‏

عليك بالقصيد فيما أنتَ فاعله *** إن التخلُّق يأتي دونَه الخُلُق

فإذا استقر وتمكن من النفس صار سجية له يجري أعماله على ما تمليه عليه وتأمره به نفسه بحيث لا يستطيع ترك العمل بمقتضاها، ولو رام حملَ نفسه على عدم العمل بما تمليه سجيته لاستصغر نفسه وإرادته وحقر رأيه‏.‏ وقد يتغير الخلق تغييراً تدريجياً بسبب تجربة انجرار مضرة من داعيه، أو بسبب خوف عاقبة سيئة من جرّائه بتحذيرِ مَن هو قدوة عنده لاعتقاد نصحه أو لخوف عقابه‏.‏ وأول ذلك هو المواعظ الدينية‏.‏

ومعنى الآية على هذا يجوز أن يكون المحكيُّ عنهم أرادوا مدحاً لما هم عليه من الأحوال التي أصروا على عدم تغييرها فيكون أرادوا أنها خُلُق أسلافهم وأسوتهم فلا يقبلوا فيه عذلاً ولا ملاماً، كما قال تعالى عن أمثالهم ‏{‏تريدون أن تصدّونا عما كان يعبد آباؤنا‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 10‏]‏‏.‏ فالإشارة تنصرف إلى ما هم عليه الذي نهاهم عنه رسولُهم‏.‏

ويجوز أن يكونوا أرادوا ما يَدعو إليه رسولهم‏:‏ أي ما هو إلا من خلُق أناس قبله، أي من عقائدهم وما راضوا عليه أنفسهم وأنه عبر عليها وانتحلها، أي ما هو بإذن من الله تعالى كما قال مشركو قريش ‏{‏إنْ هذا إلا أساطير الأولين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 25‏]‏ والإشارة إلى ما يدعوهم إليه‏.‏

وأما على قراءة الفريق الثاني فالخَلْق بفتح الخاء وسكون اللام مصدر هو الإنشاء والتكوين، والخلق أيضاً مصدر خلق، إذا كذب في خبره، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتخلُقون إفكاً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وتقول العرب‏:‏ حدثنا فلان بأحاديث الخَلْق وهي الخرافات المفتعلة، ويقال له‏:‏ اختلاق بصيغة الافتعال الدالة على التكلف والاختراع، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن هذا إلاّ اختلاق‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 7‏]‏ وذلك أن الكاذب يخلُق خبراً لم يقع‏.‏

فيجوز أن يكون المعنى أن ما تزعمه من الرسالة عن الله كذب وما تخبرنا من البعث اختلاق، فالإشارة إلى ما جاء به صالح‏.‏

ويجوز أن يكون المعنى أنَّ حياتنا كحياة الأولين نحيا ثم نموت، فالكلام على التشبيه البليغ وهو كناية عن التكذيب بالبعث الذي حذرهم جزاءَه في قوله‏:‏ ‏{‏إني أخاف عليكم عَذابَ يوم عظيم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 135‏]‏ يقولون‏:‏ كما مات الأولون ولم يبعث أحد منهم قط فكذلك نحيا نحن ثم نموت ولا نبعث‏.‏ وهذا كقول المشركين ‏{‏ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 25‏]‏ فالإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏إن هذا إلا خلق الأولين‏}‏ إلى الخَلق الذي هم عليه كما دل عليه المستنثى‏.‏ فهذه أربعة معان واحد منها مدح، واثنان ذم، وواحد ادعاء‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وما نحن بمعذبين‏}‏ على المعاني الأوللِ والثاني والثالِث عطف على جملة ‏{‏إن هذا إلا خلق الأولين‏}‏ عطف مغاير‏.‏

وعلى المعنى الرابع عطفُ تفسير لقولهم ‏{‏إن هذا إلا خلق الأولين‏}‏ تصريحاً بعد الكناية‏.‏ والقصر قصْر إضافي على المعاني كلها‏.‏

ولا شك أن قوم صالح نطقوا بلغتهم جملاً كثيرة تنحل إلى هذه المعاني فجمعها القرآن في قوله‏:‏ ‏{‏إن هذا إلا خلق الأولين‏}‏ باحتمال اسم الإشارة واختلاف النطق بكلمة خُلق فللَّه إيجازه وإعجازه‏.‏

والفاء في ‏{‏فكذبوه‏}‏ فصيحة، أي فتبيّن أنهم بقولهم‏:‏ سواء علينا ذلك أوعظت الخ قد كذبوه فأهلكناهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآية‏}‏ إلى آخره هو مثل نظيره في قصة نوح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏141- 145‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏141‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏142‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏143‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏144‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏145‏)‏‏}‏

موقع هذه الجملة استئناف تَعداد وتكرير كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏كذبت عاد المرسلين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 123‏]‏‏.‏ والكلام على هذه الآيات مثلُ الكلام على نظيرها في قصة قوم نوح، وثمود قد كذّبوا المرسلين لأنهم كذبوا صالحاً وكذبوا هوداً لأن صالحاً وعظهم بعاد في قوله‏:‏ ‏{‏واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏74‏)‏ وبتكذيبهم كذبوا بنوح أيضاً، لأن هوداً ذَكَّر قومه بمصير قوم نوح في آية ‏{‏واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 69‏]‏‏.‏

وتقدم ذكر ثمود وصالح عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإلى ثمود أخاهم صالحاً‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏73‏)‏، وكان صالح معروفاً بالأمانة لأنه لا يرسل رسول إلا وهو معروف بالفضائل ‏{‏الله أعلم حيث يجعل رسالاته‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏ وقد دل على هذا المعنى قولهم ‏{‏إنما أنت من المسحَّرين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 153‏]‏ المقتضي تغيير حاله عما كان عليه وهو ما حكاه الله عن قومه ‏{‏قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا‏}‏ في سورة هود ‏(‏62‏)‏‏.‏ وحذف ياء المتكلم من أطيعون‏}‏ هو مثل نظائره المتقدمة آنفاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏146- 152‏]‏

‏{‏أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ ‏(‏146‏)‏ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏147‏)‏ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ‏(‏148‏)‏ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ‏(‏149‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏150‏)‏ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏151‏)‏ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ‏(‏152‏)‏‏}‏

كانوا قد أعرضوا عن عبادة الله تعالى، وأنكروا البعث وغرّهم أيمة كفرهم في ذلك فجاءهم صالح عليه السلام رسولاً يذكّرهم بنعمة الله عليهم بما مكن لهم من خيرات، وما سخر لهم من أعمال عظيمة، ونُزل حالهم منزلة من يظن الخلود ودوام النعمة فخاطبهم بالاستفهام الإنكاري التوبيخي وهو في المعنى إنكار على ظنهم ذلك، وسلط الإنكار على فعل الترك لأن تركهم على تلك النعم لا يكون‏.‏ فكان إنكار حصوله مستلزماً إنكار اعتقاده‏.‏

وهذا الكلام تعليل للإنكار الذي في قوله‏:‏ ‏{‏ألا تتقون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 142‏]‏ لأن الإنكار عليهم دوامَ حالهم يقتضي أنهم مفارقون هذه الحياة وصائرون إلى الله‏.‏

وفيه حثّ على العمل لاستبقاء تلك النعم بأن يشكروا الله عليها كما قال صاحب «الحِكم» «من لم يشكر النعم فقد تعرَّض لزوالها ومن شكرها فقد قيّدها بعقالها»‏.‏

و ‏{‏هاهنا‏}‏ إشارة إلى بلادهم، أي في جميع ما تشاهدونه، وهذا إيجاز بديع‏.‏ و‏{‏آمنين‏}‏ حال مبينة لبعض ما أجملهُ قوله‏:‏ ‏{‏فيما هاهنا‏}‏‏.‏ وذلك تنبيه على نعمة عظيمة لا يدل عليها اسم الإشارة لأنها لا يشار إليها وهي نعمة الأمن التي هي من أعظم النعم ولا يُتذوَّق طعمُ النعم الأخرى إلا بها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏في جنات‏}‏ ينبغي أن يعلَّق ب ‏{‏آمنين‏}‏ ليكون مجموع ذلك تفصيلاً لإجمال اسم الإشارة، أي اجتمع لهم الأمن ورَفاهية العيش‏.‏ والجنات‏:‏ الحوائط التي تشجر بالنخيل والأعناب‏.‏

والطَّلْع‏:‏ وعاء يطلع من النخل فيه ثمر النخلة في أول أطواره يخرج كنصل السيف في باطنه شماريخ القِنْو، ويسمى هذا الطلع الكِمَّ ‏(‏بكسر الكاف‏)‏ وبعد خروجه بأيام ينفلق ذلك الوعاء عن الشماريخ وهي الأغصان التي فيها الثمر كحَب صغير، ثم يغلظ ويصير بُسراً ثم تَمْراً‏.‏

والهضيم‏:‏ بمعنى المهضوم، وأصل الهضم شدخ الشيء حتى يلين، واستعير هنا للدقيق الضامر، كما يقال‏:‏ امرأة هضيم الكَشح‏.‏ وتلك علامة على أنه يخرج تمراً جيّداً‏.‏ والنخل الذي يثمر تمراً جيداً يقال له‏:‏ النخل الإناث وضده فَحاحِيل، وهي جمع فُحَّال ‏(‏بضم الفاء وتشديد الحاء المهملة‏)‏ أي ذكر، وطلعه غليظ وتمره كذلك‏.‏

وخُصّ النخل بالذكر مع أنه مما تشمله الجنات لقصد بيان جودته بأن طلعه هضيم‏.‏

و ‏{‏تنحتون‏}‏ عطف على ‏{‏آمنين‏}‏، أي وناحتين، عبر عنه بصيغة المضارع لاستحضار الحالة في نحتهم بيوتاً من الجبال‏.‏ وتقدم ذلك في سورة الأعراف‏.‏

و ‏{‏فَرِهِين‏}‏ صيغة مبالغة في قراءة الجمهور بدون ألف بعد الفاء، مشتق من الفراهة وهي الحذق والكياسة، أي عارفين حذقين بنحت البيوت من الجبال بحيث تصير بالنحت كأنها مبنية‏.‏ وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف ‏{‏فارهين‏}‏ بصيغة اسم الفاعل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله وأطيعون‏}‏ مفرع مثل نظيره في قصة عاد‏.‏

والمراد ب ‏{‏المسرفين‏}‏ أيمة القوم وكبراؤهم الذين يُغْرَونهم بعبادة الأصنام ويبقونهم في الضلالة استغلالاً لجهلهم وليسخروهم لفائدتهم‏.‏

والإسراف‏:‏ الإفراط في شيء، والمراد به هنا الإسراف المذموم كله في المال وفي الكفر، ووصفهم بأنهم ‏{‏يفسدون في الأرض‏}‏، فالإسراف منوط بالفساد‏.‏

وعطف ‏{‏ولا يصلحون‏}‏ على جملة‏:‏ ‏{‏يفسدون في الأرض‏}‏ تأكيد لوقوع الشيء بنفي ضده مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأضلّ فرعون قومَه وما هدَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 79‏]‏ وقول عَمرو بن مرة الجُهني‏:‏

النسبُ المعروفُ غيرُ المنكَرِ *** يفيد أن فسادهم لا يشوبه صلاح؛ فكأنه قيل‏:‏ الذين إنما هم مفسدون في الأرض، فعدل عن صيغة القصر لئلا يحتمل أنه قصر مبالغة لأن نفي الإصلاح عنهم يؤكد إثبات الإفساد لهم، فيتقرر ذلك في الذهن، ويتأكد معنى إفسادهم بنفي ضده كقول السموأل أو الحارثي‏:‏

تسيل على حدّ الظبات نفوسنا *** وليستْ على غير الظبات تسيل

والتعريف في ‏{‏الأرض‏}‏ تعريف العهد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏153- 154‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ‏(‏153‏)‏ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏154‏)‏‏}‏

أجابوا موعظته بالبهتان فزعموه فقد رُشده وتغير حاله واختلقوا أن ذلك من أثر سِحر شديد‏.‏ فالمسحَّر‏:‏ اسم مفعول سَحَّره إذا سَحَره سحراً متمكناً منه، و‏{‏من المسحَّرين‏}‏ أبلغ في الاتصاف بالتسحير من أن يقال‏:‏ إنما أنت مسحَّر كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏لتكونَنَّ من المرجومين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 116‏]‏‏.‏

ولمّا تضمن قولهم‏:‏ ‏{‏إنما أنت من المسحّرين‏}‏ تكذيبهم إياه أيدوا تكذيبه بأنه بشر مثلهم‏.‏ وذلك في زعمهم ينافي أن يكون رسولاً من الله لأن الرسول في زعمهم لا يكون إلا مخلوقاً خارقاً للعادة كأن يكون ملَكاً أو جِنّيّاً‏.‏ فجملة‏:‏ ‏{‏ما أنت إلا بشر مثلنا‏}‏ في حكم التأكيد بجملة‏:‏ ‏{‏إنما أنت من المسحّرين‏}‏ باعتبار مضمون الجملتين‏.‏

وفرعوا على تكذيبه المطالبةَ بأن يأتي بآية على صدقه، أي أن يأتي بخارق عادة يدل على أن الله صدقه في دعوى الرسالة عنه‏.‏ وفرضوا صدقه بحرف ‏{‏إنْ‏}‏ الشرطية الغالب استعمالها في الشّك‏.‏

ومعنى ‏{‏من الصادقين‏}‏ من الفئة المعروفين بالصدق يعنون بذلك الرسل الصادقين لدلالته على تمكن الصدق منه، كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏من المرجومين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 116‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏155- 159‏]‏

‏{‏قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ‏(‏155‏)‏ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏156‏)‏ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ‏(‏157‏)‏ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏158‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏159‏)‏‏}‏

اسم الإشارة إلى ناقة جعلها لهم آية‏.‏ وتقدم خبر هذه الناقة في سورة هود، وذكر أن صالحاً جعل لها شِرباً، وهو بكسر الشين وسكون الراء‏:‏ النوبة في الماء، للناقة يوماً تشرب فيه لا يزاحمونها فيه بأنعامهم‏.‏ والكلام على ‏{‏عذاب يوم عظيم‏}‏ نظير الكلام على نظيره في قصة عاد ورسولهم‏.‏

وأصبحوا نادمين لما رأوا أشراط العذاب الذي توعدهم به صالحٌ ولذلك لم ينفعهم الندم لأن العذاب قد حلّ بهم سريعاً، فلذلك عطف بفاء التعقيب على ‏{‏نادمين فأخذهم العذاب‏}‏‏.‏

وتقدم نظير قوله‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآية‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏160- 164‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏160‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏161‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏162‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏163‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏164‏)‏‏}‏

القول في موقعها كالقول في سابقتها، والقول في تفسيرها كالقول في نظيرتها‏.‏

وجُعل لوط أخاً لقومه ولم يكن من نسبهم وإنما كان نزيلاً فيهم، إذ كان قوم لوط من أهل فلسْطين من الكنعانيين، وكان لوط عبرانياً وهو ابن أخي إبراهيم ولكنه لما استوطن بلادهم وعاشر فيهم وحالفهم وظاهرهم جعل أخاً لهم كقول سحيم عبد بني الحسحاس‏:‏

أخوكم ومولى خيركم وحليفكم *** ومن قد ثوى فيكم وعاشركم دهرا

يعني نفسه يخاطب مَواليه بني الحسحاس‏.‏ وقال تعالى في الآية الأخرى ‏{‏وإخوانُ لوط‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 13‏]‏‏.‏ وهذا من إطلاق الأُخوّة على ملازمة الشيء وممارسته كما قال‏:‏

أخور الحرب لباساً إليها جِلاَلها *** إذا عَدِموا زاداً فإنك عاقر

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن المبذرين كانوا إخوانَ الشياطين‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 27‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏165- 166‏]‏

‏{‏أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏165‏)‏ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ‏(‏166‏)‏‏}‏

هو في الاستئناف كقوله ‏{‏أتتركون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 146‏]‏ في قصة ثمود‏.‏ والإتيان‏:‏ كناية‏.‏ والذكران‏:‏ جمع ذَكر وهو ضد الأنثى‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏من العالمين‏}‏ الأظهر فيه أنه في موضع الحال من الواو في ‏{‏أتأتون‏}‏‏.‏ و‏{‏مِن‏}‏ فَصْلية، أي تفيد معنى الفصل بين متخالفَين بحيث لا يماثل أحدهما الآخر‏.‏ فالمعنى‏:‏ مفصولين من العَالمين لا يماثلكم في ذلك صنف من العالمين‏.‏ وهذا المعنى جوزه في «الكشاف» ثانياً وهو أوفق بمعنى‏:‏ ‏{‏العالمين‏}‏ الذي المختار فيه أنه جمع ‏(‏عالَم‏)‏ بمعنى النوع من المخلوقات كما تقدم في سورة الفاتحة‏.‏

وإثبات معنى الفصل لحرف ‏{‏مِن‏}‏ قاله ابن مالك، ومثَّل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يعلم المفسد من المصلح‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 220‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لِيَمِيزَ الله الخبيثَ من الطيب‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 37‏]‏‏.‏ ونظر فيه ابن هشام في «مغني اللبيب» وهو معنى رشيق متوسط بين معنى الابتداء ومعنى البدلية وليس أحدهما‏.‏ وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى ‏{‏والله يعلم المفسد من المصلح‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏220‏)‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أتأتون الذكران مخالفين جميع العالمين من الأنواع التي فيها ذكور وإناث فإنها لا يوجد فيها ما يأتي الذكور‏.‏

فهذا تنبيه على أن هذا الفعل الفظيع مخالف للفطرة لا يقع من الحيوان العُجْم فهو عمل ابتدعوه ما فعله غيرهم، ونحوه قوله تعالى في الآية الأخرى ‏{‏إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 28‏]‏‏.‏

والمراد بالأزواج‏:‏ الإناث من نوع، وإطلاق اسم الأزواج عليهن مجاز مرسل بعلاقة الأول، ففي هذا المجاز تعريض بأنه يرجو ارعِوَاءهم‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ما خلق لكم ربكم‏}‏ إيماء إلى الاستدلال بالصلاحية الفطرية لعمَللٍ على بطلان عمل يضاده، لأنه مناف للفطرة‏.‏ فهو من تغيير الشيطان وإفساده لسنة الخلق والتكوين، قال تعالى حكاية عنه ‏{‏ولآمُرنَّهم فَليُغَيِّرُن خَلْق الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 119‏]‏‏.‏

و ‏{‏بل‏}‏ لإضراب الانتقال من مقام الموعظة والاستدلال إلى مقام الذم تغليظاً للإنكار بعد لينه لأن شرف الرسالة يقتضي الإعلان بتغيير المنكر والأخذ بأصرح مراتب الإعلان فإنه إن استطاع بلسانه غليظ الإنكار لا ينزل منه إلى لَيِّنه وأنه يبتدئ باللين فإن لم ينفع انتقل منه إلى ما هو أشد ولذلك انتقل لوط من قوله‏:‏ ‏{‏أتأتون الذكران‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏بل أنتم قوم عادون‏}‏‏.‏

وفي الإتيان بالجملة الاسمية في قوله‏:‏ ‏{‏أنتم قوم عادون‏}‏ دون أن يقول‏:‏ بل كنتم عادين، مبالغة في تحقيق نسبة العدوان إليهم‏.‏ وفي جعل الخبر ‏{‏قوم عادون‏}‏ دون اقتصار على ‏{‏عَادون‏}‏ تنبيه على أن العدوان سجية فيهم حتى كأنه من مقومات قوميتهم كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لآيات لقوم يعقلون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏‏.‏

والعادي‏:‏ هو الذي تجاوز حدّ الحق إلى الباطل، يقال‏:‏ عدا عليه، أي ظلمه، وعدوانهم خروجهم عن الحد الموضوع بوضع الفطرة إلى ما هو مناف لها محفوف بمفاسد التغيير للطبع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏167- 173‏]‏

‏{‏قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ‏(‏167‏)‏ قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ ‏(‏168‏)‏ رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏169‏)‏ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ‏(‏170‏)‏ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ‏(‏171‏)‏ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏172‏)‏ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏173‏)‏‏}‏

قولهم كقول قوم نوح لنوح إلا أن هؤلاء قالوا‏:‏ ‏{‏لتكونَنّ من المخرَجين‏}‏ فهدّدوه بالإخراج من مدينتهم لأنه كان من غير أهل المدينة بل كان مهاجراً بينهم وله صهر فيهم‏.‏

وصيغة ‏{‏من المخرجين‏}‏ أبلغ من‏:‏ لنُخرجنك، كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏لتكونن من المرجومين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 116‏]‏‏.‏ وكان جواب لوط على وعيدهم جواب مستخفّ بوعيدهم إذ أعاد الإنكار قال‏:‏ ‏{‏إني لعملكم من القالين‏}‏ أي من المبغضين‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏من القالين‏}‏ أبلغ في الوصف من أن يقول‏:‏ إني لِعَمَلكم قاللٍ، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏67‏)‏‏.‏ وذلك أكمل في الجناس لأنه يكون جناساً تامّاً فقد حصل بين ‏{‏قال‏}‏ وبين ‏{‏القالين‏}‏ جناس مذيَّل ويسمَّى مطرَّفاً‏.‏

وأقبل على الدعاء إلى الله أن ينجيه وأهله مما يعمَل قومُه، أي من عذاب ما يعملونه فلا بدّ من تقدير مضاف كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏فنجيناه‏}‏‏.‏ ولا يحسن جعل المعنى‏:‏ نجّني من أن أعمل عملهم، لأنه يفوت معه التعريض بعذاب سيحل بهم‏.‏ والقصة تقدمت في الأعراف وفي هود والحِجْر‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فنجيناه‏}‏ للتعقيب، أي كانت نجاته عقب دعائه حسبما يقتضي ذلك من أسرع مدةٍ بين الدعاء وأمرِ الله إياه بالخروج بأهله إلى قرية «صوغر»‏.‏

والعجوز‏:‏ المرأة المسنة وهي زوج لوط، وقوله‏:‏ ‏{‏في الغابرين‏}‏ صفة ‏{‏عجوزاً‏}‏‏.‏

والغابر‏:‏ المتصف بالغبور وهو البقاء بعد ذهاب الأصحاب أو أهل الخيل، أي باقية في العذاب بعد نجاة زوجها وأهله وهي مستثناة من ‏{‏وأهله أجمعين‏}‏‏.‏ وذلك أنها لحقها العذاب من دون أهلها فكان صفة لها‏.‏ وقد تقدم ذلك في قصتهم في سورة هود‏.‏

و ‏{‏ثم‏}‏ للتراخي الرتبي لأن إهلاك المكذبين أجدَر بأن يذكر في مقام الموعظة من ذكر إنجاء لوط المؤمنين‏.‏

والتدمير‏:‏ الإصابة بالدمار وهو الهلاك، وذلك أنهم استؤصلوا بالخسف وإمطار الحجارة عليهم‏.‏

والمطر‏:‏ الماء الذي يسقط من السحاب على الأرض‏.‏ والإمطار‏:‏ إنزال المطر، يقال‏:‏ أمطرت السماء‏.‏ وسمي ما أصابهم من الحجارة مطراً لأن نزل عليهم من الجو‏.‏ وقيل هو من مقذوفات براكين في بلادهم أثارتها زلازل الخسف فهو تشبيه بليغ‏.‏

و ‏(‏سَاء‏)‏ فعل ذمَ بمعنى بئس‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏المنذرين‏}‏ تسجيل عليهم بأنهم أُنذروا فلم ينتذروا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏174- 175‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏174‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏175‏)‏‏}‏

أي في قصتهم المعلومة للمشركين آية، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإنكم لَتَمُرُّون عليهم مُصْبِحين وبالليل أفلا تعقلون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 137، 138‏]‏ وتقدم القول في نظيره آنفاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏176- 180‏]‏

‏{‏كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏176‏)‏ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏177‏)‏ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏178‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏179‏)‏ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏180‏)‏‏}‏

استئنافُ تعدادٍ وتكرير كما تقدم في جملة‏:‏ ‏{‏كذبت عادٌ المرسلين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 123‏]‏‏.‏ ولم يقرن فعل ‏{‏كذب‏}‏ هذا بعلامة التأنيث لأن ‏{‏أصحاب‏}‏ جمعُ صاحب وهو مذكر معنىً ولفظاً بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏كذبت قوم لوط‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 160‏]‏ فإن ‏(‏قوم‏)‏ في معنى الجماعة والأمة كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏كذبت قوم نوح المرسلين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 105‏]‏‏.‏

وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو جعفر ‏{‏لَيْكَةَ‏}‏ بلام مفتوحة بعدها ياء تحتية ساكنة ممنوعاً من الصرف للعلمية والتأنيث‏.‏ وقرأه الباقون ‏{‏الأيكة‏}‏ بحرف التعريف بعده همزة مفتوحة وبجر آخره على أنه تعريف عهد لأَيكةٍ معروفة‏.‏ والأيكة‏:‏ الشجر الملتف وهي الغيضة‏.‏ وعن أبي عبيد‏:‏ رأيتها في الإمام مصحف عثمان رضي الله عنه في الحِجر وق ‏{‏الأيكة‏}‏ وفي الشعراء وص ‏{‏لَيكة‏}‏ واجتمعت مصاحف الأمصار كلها بعد ذلك ولم تختلف‏.‏

وأصحاب لَيكة‏:‏ هم قوم شعيب أو قبيلة منهم‏.‏ قالوا‏:‏ وكانت غيضتهم من شجر المُقْل ‏(‏بضم الميم وسكون القاف وهو النبق‏)‏ ويقال له الدَّوم ‏(‏بفتح الدال المهملة وسكون الواو‏)‏‏.‏

وإفرادها بتاء الوحدة على إرادة البقعة واسم الجمع‏:‏ أيك، واشتهرت بالأيكة فصارت علماً بالغلبة معرفاً باللام مثل العَقبة‏.‏ ثم وقع فيه تغيير ليكون علماً شخصياً فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على لام التعريف وتنوسي معنى التعريف باللام‏.‏ وعن الزجاج‏:‏ جاء في التفسير أن اسم المدينة التي أرسل إليها شعيب كان ليكة‏.‏ وعن أبي عبيد‏:‏ وجدنا في بعض كتب التفسير أن لَيْكة اسم القرية والأيكة البلاد كلها كمكة وبَكة‏.‏ وهذا من التغيير لأجل التسمية، كما سموا شُمْساً بضم الشين ليكون علماً وأصله الشمس علماً بالغلبة‏.‏ والتغيير لأجل النقل إلى العلمية وارد بكثرة، ذكره ابن جنّي في «شرح مشكل الحماسة» عند قول تأبط شراً‏:‏

إني لمُهْدٍ من ثنائي فقاصد *** به لابن عم الصدق شُمْس بن مالك

وذكره في «الكشاف» في سورة أبي لهب‏.‏ وقد تقدم بيانه عند الكلام على البسملة قبل سورة الفاتحة، فلما صار اسم ليكة علماً على البلاد جاز منعه من الصرف لذلك، وليس ذلك لمجرد نقل حركة الهمزة على اللام كما توهمه النحّاس، ولا لأن القراءة اغترار بخط المصحف كما تعسّفه صاحب «الكشاف» على عادته في الاستخفاف بتوهيم القراء، وقد علمتم أن الاعتماد في القراءات على الرواية قبل نسخ المصاحف كما بيناه في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير فلا تتبعوا الأوهام المخطئة‏.‏

وقد اختلف في أن أصحاب ليكة هم مدين أو هم قوم آخرون ساكنون في ليكة جوار مدين أرسل شعيب إليهم وإلى أهل مدين‏.‏ وإلى هذا مال كثير من المفسرين‏.‏ روى عبد الله بن وهب عن جبير بن حازم عن قتادة قال‏:‏ أُرسل شعيب إلى أمتين‏:‏ إلى قومه من أهل مدين وإلى أصحاب الأيكة‏.‏

وقال جابر بن زيد‏:‏ أرسل شعيب إلى قومه أهل مدين وإلى أهل البادية وهم أصحاب الأيكة‏.‏ وفي «تفسير ابن كثير»‏:‏ روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة شعيب عليه السلام من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة بسنده إلى عبد الله بن عمرو قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن قوم مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيباً النبي ‏"‏، وقال ابن كثير‏:‏ هذا غريب، وفي رفعه نظر، والأشبه أنه موقوف‏.‏ وروى ابن جريج عن ابن عباس أن أصحاب الأيكة هم أهل مدين‏.‏ والأظهر أن أهل الأيكة قبيلة غير مدين فإن مدين هم أهل نسب شعيب وهم ذرية مَدين بن إبراهيم من زوجه «قطورة» سكَن مدينُ في شرق بلد الخليل كما في التوراة، فاقتضى ذلك أنه وجده بلَداً مأهولاً بقوم فهم إذن أصحاب الأيكة فبنى مدين وبنُوه المدينةَ وتركوا البادية لأهلها وهم سكان الغيضة‏.‏

والذي يشهد لذلك ويرجحه أن القرآن لمَّا ذكرَ هذه القصةَ لأهل مدين وصف شعيباً بأنه أخوهم، ولما ذكرها لأصحاب ليكة لم يصف شعيباً بأنه أخوهم إذ لم يكن شعيب نسيباً ولا صهراً لأصحاب ليكة، وهذا إيماء دقيق إلى هذه النكتة‏.‏ ومما يرجح ذلك قوله تعالى في سورة الحجر ‏(‏78، 79‏)‏ ‏{‏وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين‏}‏، فجعل ضميرهم مثنى باعتبار أنهم مجموع قبيلتين‏:‏ مدين وأصحاب ليكة‏.‏ وقد بيّنّا ذلك في سورة الحجر‏.‏ وإنما تُرسل الرسل من أهل المدائن قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً يُوحَى إليهم من أهل القرى‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 109‏]‏ وتكون الرسالة شاملة لمن حول القرية‏.‏

وافتتح شعيب دعوته بمثل دعوات الرسل من قبله للوجه الذي قدمناه‏.‏

وشمل قوله‏:‏ ‏{‏ألا تتقون‏}‏ النهي عن الإشراك فقد كانوا مشركين كما في آية سورة هود‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏181- 183‏]‏

‏{‏أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ‏(‏181‏)‏ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ‏(‏182‏)‏ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏183‏)‏‏}‏

استئناف من كلامه انتقل به من غرض الدعوة الأصلية بقوله‏:‏ ‏{‏ألا تَتّقون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 177‏]‏ إلى آخره إلى الدعوة التفصيلية بوضع قوانين المعاملة بينهم، فقد كانوا مع شركهم بالله يطفّفون المكيال والميزان ويبخسون أشياء الناس إذا ابتاعوها منهم، ويفسدون في الأرض‏.‏ فأما تطفيف الكيل والميزان فظلمٌ وأكل مال بالباطل، ولما كان تجارهم قد تمالؤوا عليه اضطر الناس إلى التبايع بالتطفيف‏.‏

و ‏{‏أوفوا‏}‏ أمر بالإيفاء، أي جعل الشيء وافياً، أي تاماً، أي اجعلوا الكيل غير ناقص‏.‏ والمُخْسِر‏:‏ فاعل الخسارة لغيره، أي المُنقص، فمعنى ‏{‏ولا تكونوا من المخسرين‏}‏ لا تكونوا من المطفّفين‏.‏ وصوغ ‏{‏من المخسرين‏}‏ أبلغ من‏:‏ لا تكونوا مُخسرين‏.‏ لأنه يدل على الأمر بالتبرُّؤ من أهل هذا الصنيع، كما تقدم آنفاً في عدة آيات منها قوله‏:‏ ‏{‏لتكونَنَّ من المرجومين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 116‏]‏ في قصة نوح‏.‏

والقُسطاس‏:‏ بضم القاف وبكسرها من أسماء العدل، ومن أسماء الميزان، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وزِنُوا بالقسطاس المستقيم ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏35‏)‏، حمل على المعنيين هنا كما هنالك وإن كان الوصف ب ‏{‏المستقيم‏}‏ يرجح أن المقصود به الميزان، وتقدم تفصيل ما يرجع إليه هذا التشريع في قصته في الأعراف‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏بالقُسطاس‏}‏ بضم القاف‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخَلَفٌ بكسر القاف‏.‏

وبخس أشياء الناس‏:‏ غبن منافعها وذمُّها بغير ما فيها ليضطروهم إلى بيعها بغبن‏.‏ وأما الفساد فيقع على جميع المعاملات الضارة‏.‏

والبخس‏:‏ النقص والذم‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ولا يبخس منه شيئاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏282‏)‏ ونظيره في سورة الأعراف‏.‏ وقد تقدم نظير بقية الآية في سورة هود‏.‏ ومن بخس الأشياء أن يقولوا للذي يعرض سلعة سليمة للبيع‏:‏ إن سلعتك رديئة، ليصرف عنها الراغبين فيشتريها برُخص‏.‏